في ذكرى رحيل أديب نوبل.. محطات بارزة شكلت ملامح هرم الرواية العربية الأكبر نجيب محفوظ
خمسة عقود أو تزيد هي حياة نجيب محفوظ الأدبية التي سطر من خلالها تاريخا جعله بجدارة في قمة الهرم الأدبي المصري والعربي. هذه الحياة الأدبية تشكلت وتطورت خلال محطات شهدت تكون نجم من نجوم الأدب العالمي، نجم لا يعرف الأفول أبدا.
تشكل وعي نجيب محفوظ بالأدب عن طريق الصدفة حين وجد زميله في المدرسة يقرأ كتابا لفت نظره أنه لا ينتمي لكتب الدراسة، وعندما عرف أنها رواية بوليسية انطلق يقرأ كل ما يقع تحت يده من هذه النوعية من الروايات حتى ألفها، وألف الكتابة، وكانت خطوته الأولى مع الكتابة أن يعيد صياغة هذه الروايات بأسلوبه في كراسات يوقع على غلافها: نجيب محفوظ.
لطالما كانت قراءات نجيب محفوظ هي الدافع لكتاباته، وكان من الطبيعي بعد سنوات من القراءة المتوسعة في التاريخ أن تكون كتاباته الأولى تاريخية، فخرج محفوظ بـ”رادوبيس”، و”كفاح طيبة”، هذه الكتابات التي كانت كتابات تاريخية بحتة لا تتجاوز تجسيد تاريخ مصر القديمة.
المحطة الأولى في حياته كانت عندما أدرك أن الكتابة التاريخية ما عادت ملائمة للعصر، وأن تجسيد التاريخ ليس مراده، عندئذ انتبه محفوظ لمذهب الواقعية في الرواية ليخطو خطواته الأولى في عالم الرواية “القاهرة الجديدة”، و”خان الخليلي”، و”زقاق المدق”، و”بداية ونهاية”.
كانت هذه الأعمال فاتحة إنتاج أدبي عظيم بدأه محفوظ وحده على طريق الكتابة الاجتماعية، ممثلا ذروة نضوج المحاولات العربية في مجال السرد عموما، والرواية بشكل خاص.
ومن العجب أن إحدى أهم محطات محفوظ في مسيرته الأدبية كانت في طريقها للضياع، بل ولعدم الظهور من الأصل؛ فبعد أن أنهى محفوظ ثلاثيته الخالدة، وكان ذلك عقب فترة توقف جاءت بعد ثورة 1952 ذهب بها إلى سعيد السحار الذي رفض نشرها واصفا إياها بالداهية؛ حيث كانت عبارة عن رواية واحدة تحت عنوان “بين القصرين” تقع في 1300 صفحة، لتظل الرواية حبيسة درج السحار لمدة عام كامل.
بعدها اتصل الأديب الراحل يوسف السباعي بمحفوظ، وقد كان وقتها السباعي رئيسا لتحرير الهلال، عارضا عليه أن ينشر أحد أعماله مسلسلا في الهلال، عندئذ اتصل محفوظ بالسحار طالبا منه أن يفتش عن الرواية لنشرها.
ولحسن حظ الجمهور قبل محفوظ نفسه عثر السحار على الرواية، ووافق على نشرها في مكتبة مصر بشرط أن يتم تقسيمها لثلاث روايات، وهو ما تم بالفعل، لينقذ القدر الأدب العربي من ضياع أحد كنوزه الخالدة.
كانت الثلاثية هي السنوات السمان التي تسبق سنوات عجاف، حيث توقف محفوظ عن الكتابة ظنا منه أن قد أفرغ ما في جعبته من خلال الثلاثية، ثم يعود بعدها من خلال “اللص والكلاب”، ليستمر تدفق أعماله بعد ذلك.
حمل عام 1959 محطة مهمة وخطيرة في حياة محفوظ، حين بدأ نشر رواية “أولاد حارتنا” مسلسلة في جريدة الأهرام، ليتوقف نشرها في العام ذاته بعد أن هاجمها الأزهر بتهمة التطاول على الذات الإلهية، الأمر الذي أضر كثيرا بسمعة محفوظ كروائي بعد تعرضه لهجوم شديد من التيارات المتطرفة التي تبنت موقف الأزهر.
الرواية ظلت حبيسة الأدراج حتى عام 1968 عندما نشرت للمرة الأولى كاملة في دار الآداب ببيروت، وظلت ممنوعة من دخول مصر بناء على أوامر الأزهر حتى قيام ثورة 2011 في مصر، لتنشر في مصر لأول مرة عن دار الشروق.
كان تقاعد محفوظ من الوظيفة الحكومية نقطة تحول في حياته الأدبية؛ حيث أتاح له إمكان التفرغ لكتابة أحد أهم أعماله بجانب الثلاثية وأولاد حارتنا وهي ملحمته الأسطورية “ملحمة الحرافيش” التي نشرت عام 1977، ومثلت نقلة نوعية في الأدب العربي، حيث قدمت مزيجا من الاجتماعية والصوفية، لم يعتدها الأدب العربي.
عام 1995 كان عاما حزينا على محبي محفوظ؛ حيث تمخضت دعوات الكراهية والتحريض ضده عن محاولة لاغتياله قام بها شاب، طعنه في رقبته طعنة نافذة كادت تقتله لولا العناية الإلهية.
ورغم ذلك فإن هذا الحادث البشع شكل محطة في حياته الأدبية، فبعد تدهور صحته نتيجة الحادث الذي سبب له نزيفا شديدا كاد يقتله بخاصة أنه كان مصابا بالسكري، ابتعد محفوظ كثيرا عن العالم الخارجي، وعزز ذلك ضعف بصره وسمعه، الأمر الذي انعكس على كتاباته، ليخرج محفوظ بنصوص من أعذب ما عرف الأدب العربي هي “أحلام فترة النقاهة” التي تمزج بين أحلام اجتماعية ونظرات صوفية، ولقطات من الذاكرة الطويلة المزدحمة.
ولكن تبقى المحطة الأهم في حياته، التي كللت هذه المسيرة الطويلة من الإبداع الأدبي بما تستحق، هي محطة نوبل، التي وضعته؛ حيث يجب أن يكون، بجوار قامات الأدب العالمي، وعلى رأس قامات الأدب العربي، معلنة للعالم أجمع أن العرب قدموا للإنسانية ومضة أضاءت في سماء الإبداع، ليظل نورها ساطعا، خالدا وإن غيبه الموت.