51 عاما على الرحيل.. سيرة ومسيرة «ناصر» الإنسان والزعيم| صور
وهبه الله كاريزما خاصة ملك بها القلوب، ولسان فصيح خاطب به العقول، مشواره في سبيل تحرير مصر من الاحتلال لا يغيب عن ذهن أحد، ولكن كيف تكونت شخصية وعقل القائد الإنسان؟. تعود أصول جمال عبد الناصر إلى قبيلة عربية استوطنت صعيد مصر مع الفتح الإسلامي، واستقر جده الشيخ حسين خليل سلطان في قرية بني مُر بمحافظة أسيوط عام 1880م، حيث وُلد أكبر أبنائه “عبد الناصر”، اشتهرت أسرة سلطان بالكرم والشجاعة والذكاء، وأطلق سكان القرية على المنطقة التي سكنوها “رحبة آل سلطان”.
كانت البداية من الجد الذي اهتم بمحو الجهل عن أهل قريته، فاستطاع أن يقنع أهل قريته بإنشاء كُتاب صغير يتولى الإشراف عليه شيخ المسجد، وافتتح في عام 1900م مكون من غرفة صغيرة فُرشت بالحصير، وأول تلاميذه كان ابنه الأكبر عبد الناصر الذي استوعب دروسه من قراءة وكتابة، كما حفظ القرآن في ثلاث سنوات، فأرسله والده إلى أخواله بالإسكندرية ليتابع تعليمه، ألتحق بمدرسة النجاح الأهلية الابتدائية التابعة إلى مشيخة علماء الإسكندرية، عُين فور انتهائه من الدراسة في عام 1910م معاوناً لبريد الإسكندرية، فكان أول من عمل بالحكومة من أبناء أهل قريته.
الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
تزوج من فهيمة محمد حماد ابنة تاجر فحم بالمنيا في 1917م، وأقاما بالإسكندرية ورُزق بابنه الأول “جمال عبد الناصر حسين” في 18 يناير 1918م، صاحب ميلاده التغيرات الدولية والعربية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، واندلاع ثورة 1919م، وسفر الوفد المصري، ثم تصريح 28 فبراير 1922م وإعلان انتهاء الحماية البريطانية واستقلال مصر رسميا،ً ثم صدور دستور 1923م، فكانت النشأة مختلفة.
حرص والده رغم مرتبه البسيط وحياته المتواضعة الذي لا يختلف عن الطبقة الكادحة من الشعب المصري، أن يمنح ابنه تعليماً جيداً، فألحقه بروضة الأطفال بمحرم بك، ثم بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة عام 1923م، ونظراً لطبيعة عمله التي تفرض عليه التنقل بين القرى والمدن المختلفة، حاول أن يوفر له استقراراً على قدر المستطاع، فأرسله إلى عمه خليل بالقاهرة عام 1925م، وأقام معه ثلاث سنوات، والتحق بمدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية، لم تنقطع رسائله إلى أبيه وأمه التي كانت تسارع بالرد عليه، لاحظ انقطاع رسائلها و-جابه والده عند سؤاله عنها بانشغالها مع إخوته عز العرب والليثي والوليد الجديد شوقي، ليكتشف أثناء زيارته لهم في الأجازة الصيفية وفاتها وإخفاء الخبر عنه مما كان له عظيم الأثر في نفسه.
الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
كعادة أهل الصعيد تعامل معه والده منذ الصغر معاملة الرجال، فرباه تربية صارمة ونمى فيه الاستقلال وقوة الإرادة وتحمل المسئولية، إلا إنه وقف حائراً أمام تساؤلاته التي حملها في رأسه في سنه الصغير عن الفروق الاجتماعية، منها لماذا يأكل اللحم بينما لا يأكلها الفلاحين الذين يربون الماشية؟؛ ممل جعل الأب يتأمله فهو يبدو أكبر من عمره بـ 8 سنوات آنذاك. كان جمال طويل القامة، ضامر الجسم، واسع العينين، عريض الجبهة، ودائماً شفتاه مضمومتان في عزم وتصميم، دائم الشرود يميل إلى العزلة والانطواء والتفكير.
أرسله والده إلى جد أمه بالإسكندرية ليلتحق بالسنة الرابعة الابتدائية بمدرسة العطارين عام 1928م، وعاد بعدها إلى عمه بالقاهرة، ونظراً لتغيبه في مأموريات عمله خارجها التحق بعدها بالقسم الداخلى بمدرسة حلوان عام 1929م لعام واحد ، عاد بعده إلى الإسكندرية مع عودة استقرار الأسرة بها ليبدأ مرحلة جديدة من التكوين بدخوله مدرسة رأس التين الثانوية وبداية ظهور “جمال الثائر”.
الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
صدر مرسوماً ملكياً بإلغاء دستور 1923م، فخرجت المظاهرات تطوف القاهرة والإسكندرية وباقي المدن والأقاليم، ليتقدم جمال ذو الثلاثة عشر عاماً جموع الطلاب المتظاهرين بالإسكندرية يهتف معهم بصوته الجهوري:(يسقط الاستعمار، يحيا الدستور، تحيا مصر) دون أن يعرف سبب تلك المظاهرة، أصيب في رأسه بعد أن ضُرب بعصا الشرطة أثناء محاولة لتفريقهم، فما كان منه إلا أن ربط جرحه بمنديله ووقف يكمل هتافه، اعتقل بقسم المنشية وعرف وقتها سبب خروج الطلبة، وتحول الحماس بداخله إلى طاقة من الغضب.
نُقل إلى المدرسة الفريدية لعامين حتى ضاق المدرسين من نشاطه وحذروا والده الذي أرسله إلى عمه مرة أخري عام 1933م، والتحق بمدرسة النهضة الثانوية بالظاهر المشهورة بنشاط طلابها السياسي، حيث بدأ في كتابة رواية بعنوان “في سبيل الحرية” عام 1934م، عن معركة أهل رشيد عام 1807م، ولكنه لم يكملها وتوقف بعد 6 فصول واستكملها بعد الثورة القاص عبد الرحيم عجاج.
تولى رئاسة اتحاد الطلاب ومارس مسئوليته كرئيس اللجنة التنفيذية بالقاهرة ومندوب للجنة طلبة المدارس الثانوية، نظم أثناء ذلك الحلقات السياسية وعقد الاجتماعات في ساحة المدرسة وحديقة مسجد الظاهر ومسجد سيدي الشعراني، ودعا زملائه إلى منزله بشارع خميس العدس وشرح في تلك الاجتماعات الأبعاد السياسية المصرية والعربية والمسئولية التاريخية، اعتقل مرة أخرى وتوسط له والده ليخرجه بكفالته ومسئوليته، وأصبح خائفاً عليه من دخوله السياسة في هذه السن المبكرة.
الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
استقرت الأسرة بالقاهرة في حي باب الشعرية بجوار مسجد الشعراني، بدأ في هذه الفترة بقراءة الكتب التي يستعيرها من مكتبة المسجد ومن أساتذته بمدرسة النهضة، ساهمت قراءته المختلفة لمصطفي كامل، وعبد الرحمن الكواكبي، وأحمد أمين، والشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وشعراء الوطنية أمثال حافظ إبراهيم، على الغياتي، على تشكيل أفكاره المستقبلية حول مكانة مصر ودورها وتولدت لديه فكرة المؤتمر الإسلامي، والدائرة العربية، وكذلك الدور المصري الرائد في المنطقة، وتابع الصحف والمجلات الوطنية والحزبية، كما اهتم بدراسة سير عظماء التاريخ منهم: عمر بن الخطاب، غاندي، كما قرأ أعمال العقاد، وتوفيق الحكيم، وفيكتور هوجو، وتشارلز ديكنز، فتعرف على معني الظلم الاجتماعي وفهم أبعاده ووازن بينه وبين قيم العدل والرحمة والحرية الاجتماعية، وجذبت انتباهه الشخصيات البارزة في التنوير الفرنسي مثل: جان جاك رسو، وفولتير الذي كتب عنه مقالاً يعترف بإعجابه به بمجلة المدرسة عام 1935م، واشترك في الحفل السنوي للمدرسة في نفس العام بدور قيصر بمسرحية شكسبير “يوليوس قيصر” بحضور وزير المعارف.
شهدت مصر في هذه الفترة نشاطاً كبيراً للحركة الوطنية، وكان للطلبة دوراً بارزاً فيها، وانضم إلى جمعية مصر الفتاة، وأصبح عضو نشط بفرقة القمصان الخضر بباب الشعرية، وشكل لجنة وطنية من طلاب المدارس بلغ عدد المنضمين إليها من مدرسة النهضة وحدها 24 طالباً، وانتفض الطلاب مع تصريح وزير الخارجية البريطاني سير صموئيل هور عن الدستور المصري، وأجج ناصر النضال الثوري بينهم وقاد المظاهرات وتعرض للإصابة بالرصاص في جبهته وفروة رأسه ورفض الذهاب للمستشفي للعلاج، وأسفرت المظاهرات عن معاهدة 1936م التي أنهت الاحتلال الإنجليزي رسمياً.
الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
قام سليمان ذكى ناظر المدرسة بمنعه من الدخول واتهمه بتحريض زملائه وفصله منها، فما كان من زملائه إلا أن ثاروا واعترضوا على القرار وألقوا بالأدراج في فناء المدرسة وهددوا بحرقها إن لم يعد، استعان الناظر بقسم الشرطة ولم يستطع الضابط القيام بإثنائهم عن مطالبهم فرضخ الناظر، إلا أنهم أصروا أن يذهب بنفسه إلى منزل “جمال” ليحضره بحنطور ويرد كرامته، وبالفعل عاد إلى المدرسة بصحبة الضابط في موكب كبير من طلبة المدرسة، ثم حاول الناظر منعه من دخول امتحان البكالوريا بحجة إنه لم ينتظم بالدراسة سوى 45 يوماً ليثور الطلبة مرة أخرى وتبوء محاولات الناظر بالفشل؛ نظراً لعدم وجود سند قانوني له فيتحداه أن يستطيع النجاح، ليفاجئه بنجاحه بتفوق عام 1936م.
قرر الالتحاق بالكلية الحربية، واجتاز الفحص الطبي، واختبار اللياقة البدنية فهو رياضى التكوين، فارع الطول قوى البنية، ووقف أمام اللجنة في امتحان الهيئة، وقد سبقته تقارير سرية من قسم الجمالية عن نشاطه وتنظيمه للمظاهرات وعدم انتظامه بالمدرسة مع توصيه بعدم القبول، ففهم من الأسئلة رفضه، فالتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة في أكتوبر عام 1936م على اعتبار إنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق أهدافه الوطنية.
أعلنت الكلية الحربية بعد 5 شهور حاجتها إلى دفعة جديدة من الطلبة، فتقدم للمرة الثانية في مارس 1937م، وتجرأ وتوجه إلى منزل وكيل وزارة الحربية المصري اللواء إبراهيم خيري باشا وسأله بشكل مباشر إذا كانت الكلية الحربية تقبل الطلبة وفق قواعد عامة على الجميع أم بالواسطة؟، فسأله اللواء إذا كان سبق أن تقدم من قبل، فحكي عن نجاحه في جميع الاختبارات واحتياجه إلى الواسطة في امتحان الهيئة وفي هذه الحال فليعد إلى كلية الحقوق، أعطت هذه المقابلة انطباعاً جيداً عند اللواء مما لمسه من شجاعة وإصرار وجدية، وفوجئ عند تقدمه للامتحان أن اللواء إبراهيم خيري هو رئيسها وأمر بقبوله بالكلية، فكان ضمن دفعة من 43 طالباً بدء الدراسة في 17 مارس 1937م واستمرت 16 شهراً مقسمة إلى ثلاث أقسام (إعدادي، متوسط، نهائي) وأسند إليه سلطات قائد جماعة”عريف” لكفاءته العسكرية العالية وهي رتبة عسكرية تمنح للمتفوقين، ثم رُقي إلى أومباشي وتخرج في 1 يوليو 1938 بنسبة 71%، ليتسلم عمله في منقباد بأسيوط برتبة ملازم ثان بكتيبة البنادق الخامسة مشاة .
رأى الأنسة تحية كاظم في إحدى الزيارات العائلية التي رافق فيها عمه وزوجته إلى أسرتها، حيث تجمع صداقة بين العائلتين، وتقدم لخطبتها من أخيها لوفاة والدها وهو برتبه يوزباشي، فاعترض الأخ أن تتزوج الأخت الصغيرة أولاً، تزوجت شقيقتيها الأكبر بعد عام فتقدم للمرة الثانية ورُفض، فوسط زوجة عمة التي حدثت شقيقتها وتم تحديد يوم 14 يناير 1944م للمقابلة الأسرية، وتم الاتفاق فيها أن يكون 21 يناير إعلانا للخطبة، صارحها في ذلك اليوم أنه سجل على دبل الخطبة تاريخ أول لقاء، وتم الزفاف في 29 يوينو 1944م. بدأ بعد الزفاف مباشرة دراسته في كلية أركان حرب، رُزق في إثنائها بابنته هدي، ثم بعد مولد ابنته الثانية منى اشترك في حرب فلسطين، تبادلا لما يقرب من العام الخطابات والمكالمات الهاتفية المتباعدة وبعض الأجازات القصيرة، ثم رزقا بخالد وعبد الحميد وعبد الحكيم.
تلك النشأة أثقلت صفاته الشخصية وبلورت أفكاره واتجاهاته ليتحول ابن الأسرة البسيطة الصعيدية الأصل إلى زعيم للأمة العربية بأجمعها.
وتصفه السيدة تحية بأنه لا يحب الاختلاط منظم، حريص على الاهتمام بالجميع، يحب أم كلثوم ويحرص على الاستماع إلى حفلتها الشهرية، واشترى أول سيارة أوستن سوداء من راتبه، وساهمت معه بجزء من أموالها. بدأت السيدة تحية في تسجيل برنامج “ذكريات معه” في 24 سبتمبر 1973م، لتؤرخ ما عاشته معه مرحلة ما قبل الثورة وما بعدها، وختمت تلك الذكريات بجملة لخصته:”إنه جمال عبد الناصر الذي عاش عظيماً.. وهو في رحاب الله عظيماً.. تاريخه وحده هو شاهده”.