منير عتيبة يكتب: جمال الفن وقبح الواقع.. قراءة في الفيلم التسجيلي “ثلاسيميا”
منير عتيبة يكتب: جمال الفن وقبح الواقع.. قراءة في الفيلم التسجيلي “ثلاسيميا”
يثير الفيلم التسجيلى “ثلاسيميا” للمخرج المتميز محمد خالد عددا من القضايا المهمة ذات الصلة بالإبداع والفن وجمالياته وبالواقع ومشاكله.
الفيلم يتناول مشكلة كبيرة يعانى منها المجتمع المصرى وهى مرض الثلاسيميا أى أنيميا البحر المتوسط، حيث يُعَّرف بالمرض، ومراحله، وأخطاره، وطرق الوقاية والعلاج، والبلاد التى ينتشر بها، والبلاد التى قضت على ظهور حالات جديدة من المرض (مثل قبرص والسعودية وفلسطين)، ومشاكل المرضى به فى مصر إلخ وذلك من خلال أطباء متخصصين فى هذا المجال، والجمعيات العاملة فى مجال رعاية مرضى الثلاسيميا، وحالات لآلام مرضى ومعاناة ذويهم.
حرص الفيلم على توصيل جرعة معرفية كاملة وكافية للتعرف على كل ما يخص المرض والمرضى، لكنه فى الوقت نفسه حرص على الخيط الدرامى الذى يرفعه من مجرد فيلم معلوماتى إلى فيلم إنسانى يمس عقل وقلب المشاهد معا، ويقدم من خلال الرؤية البصرية والحبكة البسيطة للسيناريو متعة فنية يحتاجها المشاهد ليتذوق الفيلم فنيا، وهو ما يفتقده كثير من الأفلام التسجيلية مما يجعل المشاهد ينصرف عنها.
يثير الفيلم مشكلة مهمة وهى تحاليل ما قبل الزواج، فالقانون المصرى يلزم المقبلين على الزواج بإجراء بعض التحاليل ليس من بينها تحليل الأمراض الوراثية التى منها أنيميا البحر المتوسط، وهى مشكلة قانونية تحتاج إلى علاج عاجل، لكن المشكلة الأخطر هنا هى المشكلة الثقافية، فلم تصل درجة الوعى المجتمعى إلى المستوى الذى يجعل المواطنين يلتزمون بإجراء هذه التحاليل، فحتى التحاليل المطلوبة حاليا يتم استخراجها بالفلوس من دون إجراء التحليل فعليا، فالاستهانة بهذه التحاليل شاملة من الناس والمستشفيات والرقابة، فى حين أن إجراء هذه التحاليل شديد الأهمية لأنه ينبه المقبلين على الزواج إلى الأمراض والأخطار التى يمكن أن تصيبهم أو تصيب أبناءهم، والتعامل طبيا مع هذه الحالات قبل حدوثها يجنبنا الكثير من المشاكل التى تؤدى إلى آلام إنسانية وإهدار اقتصادى.
ونحن هنا نشير إلى المشكلة الثقافية التى هى أعمق من المشكلة القانونية، لأنه إذا ثبت أن الشخصين المقبلين على الزواج حاملين للمرض فهذا يشير إلى أنهما سينجبان بالتأكيد أطفالا مصابين، ولن يكون الحل الوحيد هو عدم الزواج، لكنْ هناك حلول طبية أخرى تجعل الزواج ممكنا مع تجنب إنجاب الطفل المصاب، والعمل على إنجاب طفل سليم، لكن يحدث أن يخشى الناس إجراء التحاليل حتى لا يتأخر الزواج أو يتم إلغاؤه، وهى ثقافة لابد من التخلص منها.
وفيلم مثل ثلاسيميا يفيد فى رفع مستوى الوعى المجتمعى بأهمية إجراء تحاليل ما قبل الزواج، خصوصا أن نقص الوعى والمعلومات هنا يشمل فئة الأطباء أنفسهم، فرؤية وسماع المعاناة التى يقاسيها المرضى وذووهم تجعل المشاهد يكون أكثر استعدادا وتجاوبا.
الإهدار الاقتصادى من المشاكل المهمة جدا التى وردت بالفيلم على لسان الدكتورة آمال البشلاوى أستاذة طب الأطفال وأمراض الدم وإحدى الناشطات فى مجال محاربة مرض أنيميا البحر المتوسط، حيث أشارت إلى أن الدواء التى تصرفه وزارة الصحة للمرضى على نفقة الدولة لا يؤدى المطلوب منه كاملا لأن ما يصرف هو جرعات غير كافية، وبالتالى فهذا إهدار للمال العام، لأنها أموال تصرف ولا تحقق الغرض منها.
كما أشار الفيلم إلى التعامل الفئوى مع المرضى حيث إن بعض الفئات العمرية ليس لها حق العلاج على حساب التأمين الصحى، فأين يمكن أن يحصلوا على علاج وهذا المرض علاجه مكلف جدا؟
إننى أدعو جميع القنوات التليفزيونية إلى عرض هذا الفيلم مرات كثيرة، وأدعو المخرج محمد خالد إلى رفع فيلمه على اليوتيوب حتى يتاح لأكبر عدد من الناس، وأضم صوتى إلى صوت صناع الفيلم والناشطين فى هذا المجال بمطالبهم الأساسية: إضافة الأمراض الوراثية إلى التحاليل الواجب إجراؤها قبل الزواج، ومراقبة تنفيذها فعليا، تقديم رعاية وعلاج حقيقى للمرضى وتوفير كل ما يحتاجون إليه، أن تنشط ثقافة التبرع بالدم بين المواطنين لأن مرضى أنيميا البحر المتوسط يحتاجون إلى الدم بشدة وبشكل دورى متصل لمدى الحياة مرة كل أسبوعين لحالات ومرة كل شهر لحالات أخرى.
لن أَمَلّ التأكيد على أن التعليم والصحة هما قوام أية نهضة، وبدون تصحيح المنظومتين فلا أمل فى نهضة حقيقية، فهل من مستمع؟ وهل من مجيب؟