#
رحيل صديق عبد الناصر الوفي وناصح السادات الأمين

رحيل صديق عبد الناصر الوفي وناصح السادات الأمين

ولد محمد حسنين هيكل في عام 1923، في حي الحسين جنوب القاهرة، لأب من جذور صعيدية، كان يعمل تاجرا للحبوب، وكان يرغب في أن يكون ابنه طبيبا. لكن الأٌقدار اختارت له طريقا آخر، وهو الصحافة.

ونظرا لظروفه المادية الصعبة، التحق هيكل بمدرسة التجارة المتوسطة، ثم بالجامعة الأمريكية، حيث تعرف على سكوت واطسون الصحافي بـ”إيجيبشين غازيت”، الصحيفة الأجنبية الأولى في مصر، والتي لا تزال تصدر عن مؤسسة دار التحرير – الجمهورية. ونجح واطسون في إلحاق هيكل، البالغ من العمر 19عاما، بالجريدة في 8 فبراير 1942، كصحافي تحت التمرين بقسم المحليات.

لكن الحرب العالمية الثانية كانت مستعرة في ذلك الحين، وأصبح دور هيكل ترجمة ما تنقله وسائل الإعلام الأجنبية عنها. وقد كلف أثناء عمله بتغطية وقائع الحرب الدائرة  في منطقة العلمين، ثم سافر بعد ذلك ليغطي الحرب في مالطا، وفيما بعد إلى باريس، التي التقى فيها بالسيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة “روز اليوسف”، والتي قررت نقل الصحافي الموهوب في عام 1944 إلى مجلتها، حيث تعرَّف إلى محمد التابعي، لينتقل معه إلى مجلة “آخر ساعة”، التي قدم على صفحاتها “خبطات” صحافية أهلته للحصول عن جدارة على جائزة الملك فاروق، أرفع الجوائز الصحفية بمصر في ذلك الوقت. ثم انتقل هيكل بعد ذلك إلى العمل في جريدة “أخبار اليوم” مع التوأم على ومصطفى أمين، والتي شهدت سباقات هيكل الصحافية: من تغطيته لحرب فلسطين إلى انقلابات سوريا، ومن ثورة محمد مصدق في إيران واغتيال الملك عبد الله في القدس إلى اغتيال رياض الصلح في عمان، واغتيال حسني الزعيم في دمشق. ليستمر به المشوار حتى توليه رئاسة تحرير “آخر ساعة”، وقد بلغ من العمر 29 سنة، قبل ثورة يوليو بنحو شهر فقط .

الأستاذ هيكل – كما يسميه المجتمع الصحافي المصري – يمثل حالة فريدة من نوعها يصعب أن تتكرر؛ فهو أحد أشهر الصحفيين العرب والمصريين في القرن العشرين. وقد ساهم في صياغة السياسة في مصر منذ عهد الملك فاروق حتى الآن، كما كان يعد الصديق الأقرب للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي مثل وجوده إلى جواره علامة فارقة للرئيس وللأستاذ، فكان كاتب خطاباته وكاتم أسراره وظله في أسفاره وتنقلاته، وعاش معه ثورة الضباط الأحرار بكل تطوراتها، إلى أن استقر الأمر لعبد الناصر، فكان لهيكل نصائح ثمينة قدمها للرئيس الجديد.

كان هيكل رائدا لنهضة كبيرة في الصحافة المصرية والعربية، حيث أسس وصاغ علاقة جديدة بين السلطة والصحافة. فكان مكتبه في الأهرام مزارا ومقصدا لكبار الساسة في العالم، الذين كانوا يدرجون في مقابلاتهم الرسمية لمصر زيارة الأستاذ هيكل في مكتبه بـ”الأهرام”. وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر، وقف هيكل بكل قوة مع الرئيس السادات للقضاء على مراكز القوى، غير أنه ومع مرور الوقت، نشبت خلافات عنيفة بين الأستاذ والرئيس، فأقاله السادات من “الأهرام” بقرار رئاسي، ليُلقى القبض عليه إبان اعتقالات 1981 قبيل اغتيال السادات، إلى أن أفرج عنه الرئيس محمد حسني مبارك، وليبدأ رحلة جديدة تحول معها من كاتب إلى مفكر ومؤرخ وسياسي من طراز فريد .

الأستاذ هيكل قدم للمكتبة العربية نحو 40 كتابا، ترجم معظمها إلى نحو 30 لغة، من أبرزها: “خريف الغضب” و”عودة آية الله” و”الطريق إلى رمضان” و”أوهام القوة والنصر” و”أبو الهول والقوميسير”. بالإضافة إلى مجموعة “حرب الثلاثين سنة” و”المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل”.

وظل هيكل حتى النفس الأخير يقدم النصائح للزعماء والقادة العرب والمصريين، وظل حتى وقت قريب يقوم بزيارات خاصة إلى الزعماء والقادة العرب يعامل فيها كالقادة والملوك.

وإضافة إلى كل ما تقدم، كان هيكل يمثل وكالة أنباء متكاملة المعالم، حيث ظل متابعا حتى الرمق الأخير لكافة المستجدات. وكما كان فريدا في إبداعه، كان فريدا في إعلانه اعتزال الكتابة المنتظمة وهو في أوج مجده عام 2003م، وذلك بعد أن أتم عامه الثمانين وأثار ضجة كبيره بمقاله الوداعي ذي الجزئين، إلا أنه عاد إلى جريدة “الأهرام” وعموده الأسبوعي “بصراحة” في أعقاب ثورة 25  يناير، التي أطاحت نظامَ مبارك.

هيكل، الأستاذ، الذي فقده العرب والعالم، هو ظاهرة صحفية وسياسية لن تتكرر، وسيبقى على مر السنين علامة فارقة في تاريخ الصحافة العربية والمصرية.

إيهاب نافع

2016-02-18